منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، تعيش غزة مشاهد مأساوية متجددة تعكس الواقع المرير الذي يرزح تحته سكان القطاع. الاتفاق الذي كان يُفترض أن يكون بارقة أمل لإنهاء جولات التصعيد الدامية سرعان ما تحول إلى حبر على ورق، إذ أودت الغارات الجوية الإسرائيلية بحياة 73 فلسطينيًا بينهم 20 طفلًا و25 امرأة، فضلاً عن إصابة أكثر من 230 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة. ما يحدث في غزة ليس مجرد أرقام تُسجل في تقارير إعلامية أو بيانات حقوقية، بل هو فصل متكرر من مأساة إنسانية تُحاكي صرخة شعب يئن تحت وطأة القصف والحصار.
المشهد الراهن يُظهر مدى هشاشة التفاهمات التي يُطلق عليها مسمى “اتفاقيات وقف إطلاق النار”. فمنذ اللحظة الأولى للإعلان عن الاتفاق، استمرت آلة الحرب الإسرائيلية في استهداف المنازل والأحياء السكنية والمنشآت المدنية، مما يطرح تساؤلات جدية حول النوايا الحقيقية وراء هذا التصعيد. هل الهدف هو تحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية؟ أم أن الأمر يرتبط بمحاولة كسر الإرادة الجماعية لشعب يعاني الاحتلال والحصار منذ عقود؟ مهما كانت الإجابة، فإن النتيجة واحدة: أرواح تُزهق، عائلات تُشرد، وأجيال جديدة تُولد على وقع الرعب واليأس.
الدمار الذي طال قطاع غزة ليس مجرد أضرار مادية يمكن تعويضها، بل هو ضرب للروح الإنسانية لشعب بأكمله. صور الأطفال القتلى، والأمهات المفجوعات، والأنقاض التي كانت يومًا ما بيوتًا دافئة، تُلخص المأساة. في كل زاوية من القطاع، ثمة قصة وجع جديدة تُضاف إلى سجل طويل من المآسي. شهادات الناجين تكشف تفاصيل صادمة عن لحظات الرعب تحت القصف، وكيف تحولت الليالي في غزة إلى كوابيس لا تنتهي.
من جهتها، تُبرر إسرائيل هجماتها بالدفاع عن النفس وتتهم حركة حماس باستخدام المدنيين كدروع بشرية. لكن هذا التبرير لا يُغير من الحقيقة شيئًا؛ فالضحايا هم في الغالب مدنيون عُزل، أطفال ونساء وشيوخ لا علاقة لهم بأي صراع عسكري. استهداف المستشفيات والمدارس والمنازل السكنية يثير تساؤلات جدية حول مدى احترام إسرائيل لقوانين الحرب التي تُلزم الأطراف المتصارعة بحماية المدنيين وتجنب استهداف البنى التحتية الأساسية. وفي المقابل، تؤكد حركة حماس تمسكها بمقاومة الاحتلال، مشيرة إلى أن ما يجري ليس سوى استمرار لسياسة طويلة الأمد تهدف إلى تركيع الشعب الفلسطيني.
المجتمع الدولي، كالعادة، يقف عاجزًا أمام هذا التصعيد. بيانات الإدانة والاستنكار لا تُغير من الواقع شيئًا، فيما يظل غياب إرادة سياسية حقيقية لإيجاد حل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي السبب الرئيسي وراء استمرار هذه المآسي. المنظمات الحقوقية تدعو إلى محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في غزة، لكن هذه الدعوات كثيرًا ما تُقابل بالتجاهل أو التسييس، مما يُفقدها فاعليتها.
ورغم حجم الكارثة، يظل سكان غزة صامدين في وجه المحنة. المرأة الفلسطينية التي تفقد أبناءها وزوجها تُصر على مواصلة الحياة، والرجل الذي تهدمت بيته يبحث عن طريقة لإعادة بناء ما تبقى، والأطفال الذين فقدوا أحلامهم يحاولون التمسك بالأمل رغم قسوة الواقع. هذا الصمود يعكس الروح الحية لشعب يرفض الاستسلام، لكنه في الوقت نفسه يُلقي الضوء على ثمن باهظ يدفعه هؤلاء من أرواحهم وكرامتهم.
الدمار لا يتوقف عند حدود المنازل المهدمة أو الأرواح المزهقة، بل يمتد ليشمل النسيج الاجتماعي والاقتصادي للقطاع. الحصار المفروض منذ سنوات طويلة جعل من غزة مكانًا يصعب فيه العيش، ومع كل تصعيد جديد، تزداد الأوضاع سوءًا. العائلات التي كانت بالكاد تجد قوت يومها أصبحت الآن تبحث عن مأوى. المستشفيات التي تعاني من نقص في المعدات الطبية والدواء تجد نفسها عاجزة عن التعامل مع الأعداد المتزايدة من الجرحى.
العالم، برغم علمه بحجم المعاناة، لا يتحرك بجدية لوضع حد لهذه الكارثة الإنسانية. منظمات الإغاثة الدولية تحاول تقديم ما تستطيع، لكن الحل الحقيقي لا يكمن في المساعدات الطارئة فقط، بل في إيجاد حل جذري يضمن للشعب الفلسطيني حقه في الحياة بكرامة وأمان. غزة لا تطلب الكثير، فقط أن تنتهي هذه الدوامة العبثية من العنف والدمار، وأن يتحقق لها ما يحق لكل إنسان: الأمن والسلام.
إن استمرار هذا الوضع الكارثي يعني أن المزيد من الأرواح ستُزهق، والمزيد من الأحلام ستُدفن تحت الأنقاض. غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمز لصراع طويل الأمد يعكس فشل المجتمع الدولي في تحقيق العدالة. وفي غياب حل عادل وشامل، ستبقى غزة تئن تحت القصف، وسيسجل التاريخ مجددًا فصولًا مؤلمة من معاناة شعب صامد رغم كل الجراح.