في ليلة الرابع من مارس، طوت فرنسا صفحة من تاريخها السياسي برحيل جان-لويس دبري، أحد الوجوه البارزة في الحياة السياسية والقضائية للجمهورية الخامسة، عن عمر ناهز الثمانين عامًا. كان دبري شخصية متعددة الأبعاد، جمع بين رجل الدولة الصارم والمثقف الشغوف، وبين الإداري الحازم والفنان المحب للمسرح. شكلت وفاته خسارة كبيرة لعالم السياسة والقانون، حيث ظل حتى أيامه الأخيرة حاضرًا في المشهد العام، يكتب، يحاضر، ويشارك في نقاشات حول مستقبل الجمهورية.
ولد جان-لويس دبري في عام 1944 في عائلة ذات تقاليد سياسية قوية، فوالده ميشيل دبري كان أحد مهندسي الدستور الفرنسي لعام 1958 وأول رئيس وزراء للجمهورية الخامسة. نشأ في بيئة غارقة في السياسة والقانون، ما جعله يخطو خطواته الأولى في عالم المؤسسات العامة بكل ثقة. بعد دراسته للقانون، انخرط في سلك القضاء، قبل أن يدخل عالم السياسة من بابه الواسع، متأثرًا بالنهج الغاوليسي الذي حمله والده من قبله.
بدأ مسيرته السياسية كمستشار مقرب من جاك شيراك، الذي كان يرى فيه أحد أخلص رجاله وأكثرهم وفاءً لنهج الجنرال ديغول. تولى منصب وزير الداخلية بين عامي 1995 و1997، حيث تميز بإدارته القوية لملفات الأمن والهجرة، رغم أن ولايته لم تخلُ من الانتقادات، خصوصًا في ما يتعلق بسياسات الهجرة والتعامل مع الأزمات الأمنية. لكنه سرعان ما استعاد موقعه في المشهد السياسي كرئيس للجمعية الوطنية من 2002 إلى 2007، حيث فرض أسلوبًا إداريًا صارمًا، ودافع بقوة عن دور البرلمان في الحياة الديمقراطية الفرنسية.
عُرف دبري بشخصيته الصريحة وأسلوبه المباشر، حيث لم يكن يتردد في التعبير عن آرائه، حتى ولو كانت غير متماشية مع الخط السياسي السائد داخل حزبه. كان يؤمن باستقلالية المؤسسات وضرورة احترام الدستور، وهو ما برز بشكل أوضح خلال توليه رئاسة المجلس الدستوري بين 2007 و2016. في هذا المنصب، واجه تحديات قانونية كبرى، وأصدر قرارات أثارت جدلًا سياسيًا، لكنه ظل متمسكًا بدوره كحارس للنصوص الدستورية، رافضًا أي محاولة لتسييس القضاء الدستوري.
بعد مغادرته الحياة السياسية الرسمية، لم يتوارَ عن الأنظار، بل اتخذ مسارًا جديدًا جعله أقرب إلى الجمهور بطرق مختلفة. انغمس في الكتابة، حيث نشر عدة كتب تنوعت بين الرواية البوليسية، والتاريخ السياسي، والدراسات القانونية. كان حاضرًا بانتظام في معارض الكتب، يجلس لساعات طويلة يوقع نسخًا من مؤلفاته لقرائه، يرسم لهم على الصفحة الأولى من كتبه رموزًا من التراث الجمهوري مثل ماريان أو العلم الفرنسي، في إشارة إلى حبه العميق لفرنسا ومؤسساتها.
لم يكتفِ بالكتابة، بل دخل عالم المسرح بطريقة غير متوقعة. قدم عروضًا مسرحية استوحاها من تجربته في السياسة، حيث كان يسرد على الجمهور قصصًا وحكايات من الكواليس السياسية بأسلوب ساخر، لا يخلو من الانتقاد اللاذع لجيل السياسيين الجدد. تعامل مع هذه العروض كوسيلة للتعبير بحرية، بعيدًا عن قيود البروتوكولات الرسمية، ووجد فيها متنفسًا شخصيًا جعله أقرب إلى الناس.
حتى في أيامه الأخيرة، ظل دبري حريصًا على المشاركة في النقاشات العامة حول مستقبل الجمهورية ومكانة المؤسسات الدستورية في فرنسا. لم يكن مجرد سياسي انتهت مسيرته بانتهاء مناصبه، بل ظل فاعلًا في المشهد العام حتى الرمق الأخير. برحيله، تفقد فرنسا رجلًا جسّد على مدى عقود التزامًا قويًا بالقيم الجمهورية، واستطاع أن يجمع بين القانون والسياسة والثقافة في مسيرة فريدة من نوعها.